النُقاد والمتخصصون

رندة غرة وتد – اختصاصية نفسية تربوية | مختصة في جيل الطفولة المبكرة | معالجة أثر الصدمات عند الأطفال

كتاب “جنون المنطق” يقدم رؤية عميقة ومثيرة للتفكير حول العلاقة بين المنطق والسلوك الإنساني. أرى أن الأسلوب الأدبي في الكتاب يحفز القارئ على التفكير العميق والمشاركة في قراءة تفاعلية. فالأسلوب الجذاب الذي يتضمن أمثلة حياتية يجعل القارئ ينخرط في الموضوع ويشعر بالرسالة، وهو أمر هام في تحفيز الوعي الذاتي.

بصفتي أخصائية نفسية، وجدت أن الكتاب يمزج بين الفلسفة والتحليل النفسي بطريقة تحث القارئ على مراجعة معتقداته وتصوراته. أعجبني التركيز على موضوعات مثل السيطرة الذاتية والتفكير الناقد، لما لها من تأثير كبير على الصحة النفسية واتخاذ القرارات.

… أود في هذا النقد أن أقدم وجهة نظري وتحليلي للكتاب من منظور نفسي تربوي، آمله أن تضيف هذه الرؤية قيمة للكتاب وتعزز فهم أفكاره.

يطرح الكتاب فكرة “السيطرة الذاتية” و “التفكير الناقد” بشكل يدفع القارئ إلى إعادة تقييم معتقداته وتصوراته حول الأمور التقليدية وتشجعهم على التفكير بطريقة مختلفة ومستقلة، مما يساعدهم على فهم دوافعهم واتخاذ قرارات صحية.

الكتاب يستخدم كثيرًا من الأمثال والمصطلحات المعروفة التي يمكن للقارئ فهمها بسهولة، مما يجعل الأفكار تبدو مألوفة وأسهل للفهم. حيث أن دمج الثقافة المحلية ليكون ملائمًا للبيئة يجعل المعلومات أقرب وأسهل للتطبيق في الحياة اليومية.

بالإضافة إلى أن الكتاب يناقش أفكارًا تتعلق بالسيطرة على الذات وفهم النفس، وهو جانب هام عندما يتمكن الشخص من فهم ذاته والسيطرة على مشاعره، تتحسن صحته النفسية. هذه الأفكار تساعد في تعزيز الأمان النفسي والتدريب على التعامل مع التحديات. كما أن الأفكار الفلسفية المتعلقة بضبط الذات في الكتاب يمكن أن تكون ليس مجرد قراءة فكرية بل أداة يمكن استخدامها لتطوير الوعي الذاتي والاستقلالية.

ملاحظاتي حول كتاب “جنون المنطق” تعكس وجهة نظري من خلال عملي كأخصائية نفسية، حيث أتناول ما يعتبره الكاتب منطقًا دائمًا وأضعه ضمن إطار الاحتياجات النفسية.

قد تكون هذه الزوايا النفسية إضافةً لبُعدٍ جديدٍ لتحليل الكتاب وتفسيراً لجوانب من سلوك الإنسان من منطلق احتياجاته العاطفية والنفسية، وليس فقط منطقًا مطلقًا كما يطرحه الكاتب.

أرى هذه النقاط مفيدة لنقد الكتاب بشكل أعمق؛

1) الاحتياجات النفسية المكبوتة

أحيانًا ما يبدو كمنطق واضح، قد يكون في الحقيقة استجابة لحاجات نفسية غير واعية تدفع الشخص لسلوكيات معينة. على سبيل المثال، قد يسعى البعض لتحقيق طموحات أو اتخاذ قرارات بدافع رغبات مكبوتة، قد لا يدركها الشخص نفسه. هذه الرؤية تطرح منظورًا نفسيًا مهمًا: أن ما يُعتبر منطقيًا قد يكون، في الواقع، وسيلة لإشباع حاجات نفسية مخفية

2) البقاء في منطقة الراحة

سلط الكاتب الضوء على صعوبة الخروج من منطقة الراحة. من منظوري يمكن تفسير هذا كحاجة نفسية أساسية، مثل الحاجة للأمان أو الخوف من المجهول. الأشخاص غالبًا يتمسكون بمنطقة الراحة لأن ذلك يلبي لديهم شعورًا بالثبات والأمان، حتى لو كانت بعض القرارات تبدو منطقية. هذا يوضح أن سلوكيات الأفراد ليست دائمًا عقلانية، بل قد تكون متأثرة بحاجات نفسية مثل الحاجة للشعور بالأمان أو الخوف من التغيير.

3) الانتقال عبر الأجيال

تطرق الكاتب في الفصل الثالث إلى موضوع “الانتقال بين الأجيال”، وهي نظرية مهمة تدرس كيفية انتقال التجارب النفسية والأنماط السلوكية عبر الأجيال. من منظور علم النفس، تركز هذه النظرية على أن التجارب المؤلمة أو الصدمات يمكن أن تنتقل من جيل إلى جيل، سواء من خلال السلوكيات أو الرسائل الضمنية التي يتبناها الوالدان أو المحيطون، مما يؤثر في الأجيال اللاحقة دون وعي مباشر منهم.

على سبيل المثال، قد ينقل الوالدين إلى أبنائهم مخاوف أو انعدام أمان كان نتيجة لتجاربهم الشخصية، مما يؤدي إلى تأثير عاطفي أو سلوكي على الأبناء. ومن خلال هذا المفهوم، فإن الكثير مما قد يعتبره الكاتب منطقًا أو توجهًا طبيعيًا للأشخاص قد يكون متجذرًا في صدمات أو مخاوف مرّت عبر الأجيال، وتظهر على شكل أنماط سلوكية غير واعية. يساعد فهم هذه النظرية في تفسير بعض السلوكيات غير المبررة، والتي تكون نتيجة لتأثيرات نفسية تمتد عبر الأجيال.

4) النبوءة التي تحقق ذاتها

لا أستطيع إلا الربط بين “المنطق” الذي يتحدث عنه الكاتب ونظرية “تأثير بجماليون” أو “النبوءة التي تحقق ذاتها”. هذه النظرية تُظهر كيف أن توقعاتنا من أنفسنا أو من الآخرين قد تؤثر بشكل غير مباشر على تصرفاتنا وسلوكياتنا، مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق تلك التوقعات.

تأثير بيجماليون أو النبوءة التي تحقق ذاتها (אפקט בגמליון) تشير إلى أن التوقعات المسبقة للشخص تؤثر على سلوكه وأدائه، وغالبًا ما تدفعه لتحقيق هذه التوقعات. على سبيل المثال، إذا توقع الأهل أو المعلم أن يحقق الطفل نجاحًا معينًا، فقد يُظهر الطفل بالفعل أداءً متفوقًا نتيجة لهذا الدعم النفسي غير المباشر. من الناحية العكسية، إذا كانت التوقعات سلبية، قد يظهر تأثير سلبي على الطفل.

في هذا السياق، المنطق الذي يطرحه الكاتب قد يكون نتيجة لتوقعات أو معتقدات مجتمعية قوية، بحيث تبدأ بالتأثير على الأفراد وتوجيه سلوكياتهم، حتى لو لم تكن تلك السلوكيات مبررة عقلانيًا أو منطقيًا. ينطبق هذا بشكل خاص على القرارات والتوجهات التي يتخذها الأفراد فقط لتلبية تلك التوقعات الاجتماعية دون وعي كامل بأثرها على حياتهم.

يمكن استخدام هذا المفهوم لتوضيح تأثير التوقعات على الأطفال والأهل، مما يعزز فهمهم لأهمية التشجيع الإيجابي وتجنب التوقعات السلبية، لأنها قد تتحقق وتؤثر على مسار حياة الطفل بطرق غير مقصودة.

5) التعزيز والعقاب

الكاتب يتطرق إلى نظريات العقاب والثواب، التي ترتبط بنظرية الاشتراط الإجرائي لعالم النفس الأمريكي “سكينر”. وفقًا لنظرية سكينر، يتأثر سلوك الإنسان بنتائج تصرفاته، سواء كانت إيجابية أو سلبية، حيث يميل الأفراد إلى تكرار السلوكيات التي تؤدي إلى مكافآت أو نتائج إيجابية وتجنب السلوكيات التي تؤدي إلى عقوبات أو نتائج سلبية.

سكينر أوضح أن التعزيز الإيجابي (مثل المكافأة بعد القيام بسلوك معين) يشجع على تكرار السلوك، بينما التعزيز السلبي يدفع الفرد للابتعاد عن السلوكيات غير المرغوبة عبر تجنب العواقب السلبية. هذا النظام يشكّل قاعدةً قوية للسلوك البشري، حيث إننا غالبًا نتخذ قراراتنا بناءً على توقعاتنا للنتائج الحتمية.

6) رد الفعل المعاكس

تجربة الكاتب الشخصية تُلقي ضوءًا على نقطة مثيرة للاهتمام تتعلق بردود الفعل النفسية لبعض الأشخاص تجاه العقاب. من الناحية النفسية، هناك أشخاص يعبرون عن سلوكيات معاندة أو مقاومة كرد فعل على العقاب أو القيود الشديدة، وهي ظاهرة تُعرف باسم التفاعل العكسي أو رد الفعل المعاكس.

عندما يُفرض عقاب شديد أو يُمنع شخص ما من سلوك معين، قد يشعر بنوع من التحدي أو الرغبة في استعادة سيطرته وحريته، ما يدفعه إلى مقاومة العقاب عبر تكرار السلوك الممنوع أو حتى زيادة حدته. هذا يتوافق مع تجربة الكاتب، الذي وجد نفسه يقوم بالسلوك أكثر كلما كان العقاب أشد، كنوع من رد الفعل السلبي تجاه محاولة السيطرة عليه.

من منظور سكينر ونظريات التعزيز والعقاب، فإن العقاب لا يكون دائمًا وسيلة فعالة لوقف السلوك غير المرغوب. بدلاً من ذلك، العقاب قد يؤدي إلى الشعور بالضغط النفسي أو الرفض، مما يزيد من رغبة الشخص في مقاومة القواعد المفروضة عليه. وبالتالي، قد يكون من الأفضل التركيز على تعزيز السلوكيات الإيجابية بدلاً من العقاب الشديد، خاصةً مع الأشخاص الذين يظهرون نزعة مقاومة للسيطرة.

7) ميكانيكيات الدفاع (מנגנוני הגנה)

يتناول الكاتب في الفصل الثالث موضوع “ميكانيكيات الدفاع” أو الآليات الدفاعية التي يستخدمها الإنسان لحماية نفسه من المشاعر السلبية أو تجنب مواجهة الحقائق غير المريحة. من بين هذه الميكانيكيات، يبرز الكاتب “آلية الإسقاط”، حيث يميل الشخص إلى إلقاء اللوم على عوامل خارجية لتبرير إخفاقاته أو عجزه عن التغيير، بدلاً من مواجهة الأسباب الداخلية.

الإسقاط هو آلية دفاعية نفسية تسمح للفرد بنقل مشاعره أو دوافعه غير المقبولة إلى شخص آخر أو إلى الظروف المحيطة، في محاولة لتجنب الشعور بالذنب أو القلق. في هذا السياق، يتجنب الشخص مواجهة مسؤولياته الشخصية بإلقاء اللوم على “ظروف قاهرة” يعتقد أنها أقوى منه. على سبيل المثال، قد يبرر الشخص فشله في تحقيق أهداف معينة بقوة الظروف المحيطة، بدلاً من الاعتراف بأن السبب قد يكون مرتبطًا بقلة الجهد أو ضعف التخطيط.

كأخصائية نفسية، أرى هذه الآلية في عملي مع الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في تحقيق التغيير. فهم الإسقاط كآلية دفاعية يساعد في توعية الأفراد بهذا السلوك ويشجعهم على تحمل مسؤولية قراراتهم بدلاً من تبرير إخفاقاتهم.

8) لا يوجد صحيح مطلق

الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، وتتشكل بناءً على إدراك الفرد وتجربته الشخصية.

من منظوري كأخصائية نفسية تربوية، هذه العبارة تحمل أهمية كبيرة، في عملي مع الأطفال والأسر والمؤسسات التعليمية، ألاحظ مراراً كيف يختلف فهم نفس الموقف أو الحدث بين الأفراد، اعتماداً على خلفياتهم، خبراتهم، واحتياجاتهم العاطفية والمعرفية. حيث أن الإدراك عملية نفسية نشطة يتدخل فيها الماضي، التوقعات، والاحتياجات. هذا يعني أن كل فرد “يبني” الحقيقة بناءً على عدسته الخاصة، وهو أمر نحتاج لفهمه في تعاملنا مع الآخرين.

كما ويمكن ملاحظة أن ما يُعتبر “صحيحًا” في ثقافة معينة قد يُفهم بشكل مختلف تمامًا في ثقافة أخرى. وهذا يدعم فكرة أن “الصحيح” مفهوم مرن وليس ثابتًا.

عندما نتعامل مع الأشخاص حولنا أو نرى ردود فعلهم، من الضروري عدم الحكم المطلق على سلوك معين كصحيح أو خاطئ. بدلاً من ذلك، نسأل: “ما الذي دفعه للتصرف بهذه الطريقة؟ وما الذي يعنيه هذا السلوك بالنسبة له؟”.

كأخصائية تربوية، أواجه الكثير من الاختلافات في وجهات النظر حول منهجيات التدريس أو سبل التعامل مع الطلاب. إدراك أن “الصحيح” يتغير وفقًا للسياق يساعد على خلق حوار بنّاء.

الفكرة الأساسية التي يمكن إيصالها هي أن القبول بوجود وجهات نظر متعددة لا يعني غياب الحقيقة، بل يعني أن الحقيقة أغنى وأكثر تعقيدًا من أن تختزل في منظور واحد. وهذا الإدراك يجعلنا أكثر تفهماً وفعالية.

رغم أن كتاب “جنون المنطق: شيفرات السيطرة السرية” يتميز بالأسلوب الأدبي العميق ويثير التفكير الناقد، إلا أنه قد يتضمن بعض الجوانب القابلة للنقاش من زاوية نظري كمتخصصة لإمكانية تأثيرها على فهم القارئ واستفادته منها:

1) الغموض أحيانًا:

الكتاب يستخدم أسلوبًا فلسفيًا وأدبيًا قد يكون معقدًا أو غامضًا للقارئ العادي في بعض الأحيان. بالرغم من أن الكثير من الأفكار تم تقديمها من خلال استعارات وتشبيهات، إلا أنه قد يكون الوصول إلى الرسالة الأساسية صعبًا، خاصة بالنسبة للقراء غير المعتادين على الأسلوب الفلسفي. من الناحية المهنية، هذا قد يكون تحديًا، لأن الفهم الواضح للأفكار ضروري لتطبيقها في فهم السلوك أو التطوير النفسي.

الكاتب: الكاتب ليس معالجا نفسيا ولا سلوكيا والكتاب لم يكتب لهذا الهدف، أن يكون للكتاب جوانب نفسية وسلوكية عميقة وباحترافية يشيد بها المتخصصون تضفي على الكتاب قيمة. في مواضع قليلة تعمّدت التشفير والغموض لئلا أثقل على القارئ العادي حتى لا يتوه في فلسفات لا يحتاجها ولا تعنيه، وفي ذات الوقت أوفّر له وللفلاسفة والمتخصصين مساحة تفكير وتفكُّر وغوص كل حسب طاقته واهتماماته بدون وصاية مني ولا وعظ من أعلى، ففكرة الكتاب قائمة على احترام عقل القارئ وشحن المحفزات لتحريره من المسلمات والسطحية، الأهم من كل ذلك تبسيط الأمور المعقدة لتبدو سهلة بالفعل.

2) الطابع الانتقادي قد لا يناسب الجميع:

الكتاب يحمل طابعًا انتقاديًا قويًا تجاه الأفكار التقليدية، مما قد يشعر بعض القراء بالارتباك أو المقاومة. في عملي النفسي التربوي، ألاحظ أن النقد الشديد قد لا يكون مناسبًا للجميع، حيث من الأفضل تقديم الأفكار بطريقة تشجيعية تسمح لهم بالتفكير دون مقاومة أو نفور.

الكاتب: هذا سر من أسرار الإقبال على الكتاب، نسابق الزمن لإتمام الطبعة الخامسة، الصراحة الجرأة الصدق الوضوح والشجاعة في عرض الأمور الفاضحة بلا زركشات وأصباغ، مللتُ وكذلك الناس ملّوا الكتابات المجترة والطبطبة الزائدة والمداهنات المخدّرة، هو مستفز بل صادم وكما قال د. رائد فتحي “كتاب مستفز من كاتب مستفز”، الاستفزاز له غاية تشويقية وله غاية مقصودة لذاتها.

3) قد لا يلائم الكتاب جميع الأعمار:

بسبب اللغة المستخدمة وعمق الأفكار، قد لا يكون الكتاب مناسبًا لجميع الفئات العمرية. قد تجد أن هذه اللغة والأفكار الثقيلة قد تكون صعبة على الشباب الصغار أو الأشخاص الذين يحتاجون إلى صياغة بسيطة.

الكاتب: نعم “قد” لكن الميّ تكذّب الغطاس! اللغة حداثية يفهمها الجميع، تبدو قوية وفخمة لكن مفهومة كالعامية كما ذكر أكثر من قارئ لم يقرأوا كتابًا في حياتهم. لا شك يعرض الكتاب لقضايا مجتمعية ثقيلة بأسلوب قصصي تشويقي مبتكَر ومفهوم للجميع. التعمّق في فهم أفكاره متعلق بالطبع بتجارب ومزاولة سابقة، كالتعليم الجامعي والتدريس والتربية والأمومة والأبوّة والزواج والطلاق والعمل والتجارة والجريمة والحظّ والقدر والصدفة والداروينية.. للأجيال الصغيرة هي نظريات لم يواجهوها في واقعهم لكنهم مقبلون عليها وأكشفهم عليها باكرًا لتنضجهم وتعدّهم لما هم مقبلون عليه. لقد عرضتها في سياق قصصي بسيط لا في سياق وعظي فلسفي معلوماتي. الفكرة تصل لا محالة لكن عمق وصولها يتعلق بتجارب الشخص واحتكاكاته ومعتركات حياته واهتماماته.

مع كامل احترامي؛
رنده غره وتد
جت- كندا
اختصاصية نفسية تربوية | مختصة في جيل الطفولة المبكرة | معالجة أثر الصدمات عند الأطفال