انطباعي حول كتاب “جنون المنطق” للكاتب رامي عنابوسي
“وإنّني لزنديق ثائر؛ لا أؤمن بحتميّة المصير؛ لا أؤمن بمُسلّمات تحكم عوالمنا؛ ولا أؤمن بأيّ دين بشريّ يؤوّلونه هم على الخاطر والمزاج. الزّندقة هي طريقي نحو الحقيقة، وسبيلي إلى اليقين، وبوّابتي صوب الحريّة” (ص81)
بهذا التّصريح المستفزّ الجريء يَلِج الكاتب رامي عنابوسي إلى أعماق القارئ في كتابه “جنون المنطق“، متمرّدًا ومتحدّيًا بشكل صارخ القيود الفكريّة والمعتقدات المنطقيّة المفروضة.
هذا الكتاب هو رحلة استثنائيّة في أعماق النّفس البشريّة والذّات الإنسانيّة، يأخذ القارئ إلى عوالم مفعمة بالتأمّلات العميقة والإلهامات اللّامتناهية. يخلط الكاتب ببراعة بين السّرد الذّاتيّ والموضوعيّ، حيث يستخدم سيرته الذاتيّة خلفيّة لطرح أفكاره المتعلّقة بالتّنمية البشريّة بأسلوب مطعّم بومضات من الحكمة والفلسفة.
أوجز الكاتب هدف الكتاب بقوله: “هذا هو ما أحاول عبر كتابي أن أوضحّه لك، لأختصر عليك 40 سنة غالية من حياتك المحدودة” (ص102)؛ وقد يظنّ القارئ بهذا التّحديد أنّ الكتاب موجّهٌ لشريحة محدّدة تنحصر بمن بلغ الأربعين من العمر، ممّن يبحثون عن حصاد التّجارب والخبرات دون الحاجة لقضاء عقود في التّجربة والخطأ. لكن في الواقع، الكتاب يعانق اهتمامات مختلف الشّرائح العمريّة. مما يجعله موردًا قيمًا لأيّ شخص يطمح في استلهام دروس الحياة بشكل ماتع وناجع. لذلك، كان أوّل ما فعلتُه بعد الفراغ من قراءة الكتاب أن أعطيته لأميري (ابني الجامعيّ الذي يدرس في نفس تخصّص الكاتب) ليقرأه.
ما طبيعة الكتاب وفحواه؟ أجاب عنابوسي عن ذلك بقوله: “هذا كتاب عقيدة مسلكيّة وتنمويّة شاملة” (ص162). في كتابه، يقدّم الكاتب رؤية موسّعة تجمع بين مجالات معرفيّة عدّة، ففيه تجد الاقتصاد، والفلسفة، والدّين، والاجتماعيّات.. كلّها في بوتقة واحدة تتغيّا بناء فكر تنمويّ شموليّ. ويمكن أن نلخّص مضمونه بدعوته المتكرّرة عبر ثنايا الكتاب: “اكفر بكلّ منطق يكبّلك” (ص163).
سأتوقّف قليلًا عند اللّغة وأبرز الأساليب الفنّيّة التي ميّزت النصّ:
– في “جنون المنطق”، تبرز اللّغة باعتبارها من الأبطال الرئيسيّين في السّرد، فالكاتب ينسج لغة سلسة، رشيقة، وعميقة. ويجعل منها وسيلة فنّيّة تُعزّز من جماليّة النّصّ، وتُثري محتواه الفكريّ. هذه اللّغة إنّما تكشف عن عُمْق قريحة الكاتب وبراعته اللّغويّة. أعترف أنّني منذ زمن لم أستلذّ بلغة كهذه في كتاب لا يندرج تحت تصنيف “الكتب الأدبيّة”.
– في سَعْيِه لتفكيك البنيات والثّوابت؛ يلجأ الكاتب إلى أسلوب التّناصّ، مُستخدمًا إيّاه كأداة لتعميق النّصّ وإثرائه. يظهر هذا جليًّا في اقتباساته المتنوّعة من النّصوص القرآنيّة والشّعر العربيّ. من أمثلة ذلك التّناصّ مع آيات قرآنيّة من مثل: “كذّاب أَشِر” (ص48)؛ “ليس من السّهل أن تستطيع معي صبرًا” (ص80)؛ “فكّر وقدّر، ونظر وتدبّر..” (ص150)؛ “سنوات خاوية على عروشها” (ص165).
وفي قوله: “مارسوا عليّ ألوان الطّمس ليخرسوا قريحتي فتأبّيتُ، ثم أبصرتُ قدّامي طريقًا سارت فيه جموع الناس فنأيتُ، ويمّمتُ إلى طريق مهجور فمشيتُ” (ص161) يوظّف قصيدة إيليا أبو ماضي: “جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت/ ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت/وسأبقى ما شيا ان شئت هذا ام أبيت”. ومن المعروف أنّ توظيف التناصّ في السّرد يدلّ على سعة اطّلاع الكاتب وثقافته.
– يوظّف الكاتب الأمثال الشّعبيّة بطريقة مبتكرة، حيث يقوم بتحويرها لتلائم السّياق الذي يطرحه. هذه الطّريقة ليست مجرّد استعراض لبراعته اللّغويّة؛ بل هي تعبير عن رفضه لقبول الأمور كما هي دون تمحيص أو نقد. وكأنّه يدعو القارئ لإعادة النّظر في الكليشيهات اللّغويّة والعبارات الثّابتة. من أمثلة ذلك: قوله “أكل عليه الدّهر وتجشّأ” (ص164)؛ وفي موضع آخر نقرأ: “الجرّة تسلم كلّ مرّة” (ص118)؛ “كذب الاقتصاديّون ولو صدقوا” (ص29).
– تنماز اللّغة بشاعريّتها المرهفة في العديد من المواضع. هذا على الرّغم من أنّ طبيعة الكتاب الفلسفيّة قد لا تستلزم بالضّرورة أسلوبًا شعريًا، إلا أنّ الكاتب يختار هذا الأسلوب بعناية فائقة، ما يضفي على النصّ لمسة من الأناقة والجمال، متناغمًا بذلك مع السّياق العامّ بشكل لطيف وجذّاب. التّلاعب اللّغوي والسّجع الذي يستخدمه الكاتب ليس مجرّد “ديكور” أدبيّ؛ بل هو وسيلة لجذب القارئ وإغرائه للتفكّر العميق في الموضوعات المطروحة. من أمثلة ذلك: “تواكلوا بدل أن يتّكلوا” (ص139)؛ “كي تتفقّه لا لتتفكّه” (ص115)؛ “كلّ كبيرة وجريرة” (ص214)؛ “على نحو سافر أو سافل” (ص222)؛ “سيعتبرها منطق البعض نفيسة، ومنطق البعض الآخر سيعتبرها خسيسة” (ص126)؛ “كنت في حاجة ماسّة إلى عقاب تأهيليّ، يلوي عنق المنطق الذي يركبني” (ص59).
– يمتلك الكاتب قدرة على خلق تجربة قراءة تفاعليّة تتجاوز حدود النّصّ المكتوب، لتصل إلى التّواصل المباشر مع القارئ. وهو ما يُضفي على الكتاب جاذبيّة وتشويقًا وديناميكية تُعزز من تفاعل القارئ مع الأفكار المطروحة، إذ يشعر بأنّه مُخاطب بشكل شخصيّ ومباشر، وأنّ هذا النصّ قد كُتب خصّيصًا له. مثال ذلك: “إن أردتَ مرافقتي حتّى النهاية، “اكفر” بألوهيّة المنطق، وامض معي خطوة بخطوة، قبل أن تظهر الشّعرة البيضاء” (ص109). ويقول في موضع آخر: ” أنت على رأس قائمة أهدافي، أجل أنت مَن أبحث عنه” (ص34). هذا الأسلوب يحوّل القارئ من مجرّد متلقٍّ سلبيّ للمحتوى إلى شريك نَشِط في مسار الاكتشاف والتّحليل. ويُصبح، بذلك، جزءًا من محاورة مستمرّة تتسلّل إلى عُمق تفكيره.
– يمزج الكاتب بين السّرد الفلسفيّ المعمّق والهومور اللّطيف، ما يضفي على النصّ جاذبيّة ومتعة. يُسهم هذا الأسلوب في تخفيف وطأة المواضيع “الثقيلة”. من أـمثلة ذلك: “فرفور ذنبه مغفور” (ص214)
– ينماز الكتاب بدقّة الوصف والسّرد لدرجة أنّ القارئ يتماهى مع الحدث ويشعر أنّه يراه مصوّرًا. كما في وصف الضّربة الموجعة التي تلقّاها من أستاذه.
أجْمِلُ فأقول، “جنون المنطق” يستحقّ القراءة والتأمّل، فهو مصدر غنيّ بالأفكار الملهمة والتّحليلات العميقة التي تستحقّ الغوص فيها. إنّه دعوة لإعادة تشكيل عوالمنا بطرائق تحرّرنا من السّلاسل الفكريّة التي تقيّدنا. إنّه ليس مجرّد كتاب؛ بل هو جسر يربط بين الإنسان وجوهره الأعمق. يُقدّم للقرّاء أدوات ليس فقط لفهم ذواتهم بل لتغييرها، ويحفّزهم أن يكونوا سادة أقدارهم في عالم يتزايد فيه الجنون المنطقيّ لحظة بعد لحظة.