أهداني الأخ رامي عنابوسي باكورة أعماله “جنون المنطق- شيفرات السيطرة السردية”. لقد قرأت الكتاب، وبودّي التعقيب عليه وفق معيار التحليل الأدبيّ المتّبع للنصوص المنشورة في الدوريّات الأدبيّة وغيرها.
بادئ ذي بدء، لا بدّ من ابداء ملاحظتين هامّتين عن مؤلّف الكتاب. الأولى- هو لا ينتمي إلى طبقة الكتّاب الذين امتنهوا مهارة “فن الكتابة” من خلال دراسة اللسانيّات في المؤسسات الأكاديمية، بل كان تخصصه بالاقتصاد وإدارة الحسابات؛ والثانية أنّه اكتسب ثقافته الأكاديميّة باللغة العبريّة، والتي من المفروض أن يكون ملمًا بها أكثر من لغته الأمّ العربيّة في هذه المرحلة، كما حصل مع الكاتب سيّد قشوع، ابن طيرة المثلث، الذي يكتب رواياته باللغة العبريّة. ومع ذلك، تجدنا نتصفح كتابًا مصاغًا بلغة عربية سليمة وراقية من الفصيح الحديث، التي تصدر عن كاتب لديه دراية في فقه اللغة العربيّة وكنوزها وأسرارها. فالكتاب في طياته يحتوي على عنصر التشويق، إذ يجذب القارئ لمتابعة قراءة الكتاب من بدايته حتى نهايته، ممّا يشعره بالمتعة والاستئناس والاثارة والترقب في الاطّلاع على السرد القادم.
المضمون: مضمون الكتاب يدور حول العنوان “جنون المنطق”، إذ سيرورة حياتنا تتّخذ من المنطق أمرًا مقدسًا لتبرير سلوكياتنا اليوميّة، بحيث لا نجرؤ على انتقادها أو تغييرها. وجاء بطل الكتاب لينسف هذا التوجّه، ويدعو بقوّة إلى عدم تقبّل هذا الواقع المستدام، والثورة على المسلّمات. فالبطل مغامر، متمرد منذ الصّغر، كما يعرّف نفسه: “لم يدرك والدي وأساتذتي سرّ شخصيّتي المتمردة” (ص. 62)؛ “كنت طفلاً متمردًا” (ص. 63). فهو انسان يختلف عن الآخرين، دائمًا يبحث عن المجهول ويرفض الاستسلام للمسوغات الشعبويّة السّائرة، ويدّعي أنّ القبول بالواقع أمر مرفوض، ويجعلك تسير في نفق مظلم مغلق، مثقلٌ في نهايته بالمتاعب والآلام دون الوصول إلى حلول أخرى. ولقد أثبتت له الأيّام أنّ مسار التمرّد الذي انتهجه امامًا ومحرابًا في حياته اليوميّة قد أثمر وأينع وجعله يحقّق غاياته، وذلك بفضل التجارب التي خاضها “إنّها الحياة ما أبلغ دروسها وما أحكم مواعظها!” (ص. 56).
الكتاب متنوع الموضوعات، فهو يطرق أبواب عدّة منها الفلسفة والتجارة والتربية والسياسة والمجتمع والنفس. ويسعى الكاتب بكلّ ما أوتي بقوّة إلى تفكيك الشيفرات السريّة، المتوفرة في هذه الموضوعات، المسيطرة عليه لدى اتخاذ القرارات الشخصيّة الحاسمة. لقد خاض مسلكًا آخرًا، وكانت نتائجه أوفر حظًا، ويريد أن يعمّم تجربته الذاتيّة على القرّاء. وعليه، فهو يقوم بدور الواعظ والناصح الأمين، بل ويرى بنفسه أنّه يرسم لنا “خارطة طريق” تنجينا من مهالك كثيرة، وفق وجهة نظره ورؤيته. وفي ذلك يقول عن الكتاب “فيه من العبر والعظات من شأنه أن يوفّر عليك 40 سنة من التجارب الحياتيّة الفاشلة، لكنه ليس كتاب تنمية بشرية!” (ص. 17).
يجب التأكيد على الأحداث التي يوظّفها الكاتب كحجر أساس لبنية الكتاب تعتمد على محوريْن أساسييْن، وهما الجانب التعليميّ بشقية المدرسيّ والأكاديميّ والجانب الاقتصاديّ ومدى تجاربه بذلك في حياته اليوميّة، حيث يعرّف الكاتب نفسه: “أنا رجل اقتصاد ولست كاتب سيناريوهات” (ص. 88). فهو يستخدم ومضات من حياته الشّخصيّة، فـ “الحياة هي الشيفرة”، ويبني عليها الفكرة التي تجول بخاطره، ومن ثمَّ يقوم بالتعليق عليها من خلال تقبلّها أو دحضها.
مبنى الكتاب: يتألف الكتاب من أربعة فصول وملحق. الفصل الأوّل بمثابة مقدّمة عامة للكتاب يطرح بها الكاتب الفكرة المركزيّة للكتاب، وأنّ الفصول التي تليه توضّح ذلك بإسهاب من خلال عرض مشاهد من حياته ونقاشات عامّة تصبّ في نفس المضمار؛ الفصل الثاني بمثابة تفصيل نماذج من الحالات ذات صلة بعالم المغامرات والشيفرات. ففي نهاية الفصل الأوّل يقول الكاتب: “هل أنت جاهز لمغامرة لن تنساها حياتك؟ هيّئ نفسك لخوض عالم الشيفرات الغامض في الفصل التالي…” (ص. 78)؛ الفصل الثالث يعتمد على تشخيص الحالات من خلال استخدام نماذج من عالم الحيوانات ومن حياته الشخصية، مثل مشاجرته مع أخيه والتخاصم عند الأمّ، ومن ثمّ مع معلميه في المدرسة، مركزًا على مسألة الظلم والعدل؛ والفصل الرابع والأخير متمم للكتاب من خلال عرض نماذج أخرى لم يتناولها من قبل. أمّا المادة الواردة في الصفحات 237- 269 تقع تحت عنوان “كنوز ولآلئ منتقاة من الفصول الأربعة” هي في الواقع ملحق يسلّط فيه الضوء على جمل ومقولات يعتبرها الكاتب “كنوز ولآلئ”، فهي زائدة ويمكن الاستغناء عنها. وإذا ما كان لا بدّ من الكتابة، فيمكن كتابة تلخيص موجز يبيّن فيه الخلاصة والنتائج التي توصّل إليها في هذا الكتاب.
النوع الأدبي للنص (الجانر): ثمّة اشكاليّة في تصنيف النوع الأدبيّ للكتاب. من المتعارف عليه أنّ المُؤلّف الأوّل لكل كاتب ناشئ يعتمد الكثير على سيرة حياته الشخصيّة، كما هو الحال لدى الكاتب سيّد قشوع في كتابه الأوّل ערבים רוקדים 2002 (عرب يرقصون)، إذ ثمّة تصور تجربة الشّخص من خلال الأحداث المتسلسلة لحياته، حيث يروي فيها الكاتب بنفسه سيرة حياته. وعندما يكون كلّ الكتاب منصبّ بمنحى شخصيّة الكاتب، يُسمّى بالأدب كتاب “السيرة الذاتيّة” Autobiograph، كما هو الحال في كتاب “الأيام” لعميد الأدب العربيّ طه حسين. رامي عنابوسي يتّخذ من حياته الشّخصيّة منذ الطفولة، مرورًا بمرحلة التعليم في مدارس البلدة وانتقاله إلى الجامعة، وبعد ذلك تعامله مع الناس وتجاربه في إطار عمله بالاقتصاد مادّة غزيرة يعتمد عليها في تأليفه الكتاب. ومع ذلك، فمن ناحية المواد يعتبر المُؤلّف كتاب سيرة، ولكن ضبط المواد لا يسير وفق التسلسل الزمنيّ الحياتيّ؛ ففي نفس السّياق تراه يتحدث عن مرحلة الطفولة، ومن ثمّ ينتقل لتصوير مشهد من الجامعة أو بالعكس وهذا دواليك، وذلك وفق السّياق الذي يطرحه بالنقاش ليدعم رأيه. إنّ استخدام هذا النّمط يفقد الكتاب تعريفه كسيرة ذاتية. وفي ذلك يقول الكاتب: “كتابي هذا مختلف عن أيّ كتابٍ ربما تكون قد صادفته في حياتك، مختلف بالتأكيدّ أحداثه خاصة بي ووقعت لي شخصيًا، لكنه ليس كتاب سيرة!” (ص. 17).
وعليه، أرى أنّ الكتاب ينتمي إلى جانر”أدب اليوميّات”، وهو صورة عن حياة الكاتب، ومثال على ذلك في الأدب العربيّ “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم. ففي كتاب “جنون المنطق” يقتطف الكاتب مشاهدًا أو صورًا مختلفة من حياته الشخصيّة بشكل عشوائيّ، ويبني عليها الفكرة التي يريد مناقشتها. يدّعي الكاتب انه استطاع السيطرة على المعوقات الوهميّة التي تمنع الانسان التفكير في الكتابة، وأنّ قدرته على اخراج الكتاب إلى النور في منتصف العقد الرابع من عمره، هو دليل على نجاح فكرة الكتاب. والنتيجة “فكرة الكتاب جعلتني أتخلص من عقدٍ منعتني، ومناطق شلّتني عن الحركة والتفكير في الاتجاه السّليم الذي يخدم أهدافي، يمكنني القول بأن الكتاب أخرج نفسه بنفسه!” (ص. 234).
أسلوب الكتابة: كتاب نثريّ، يعتمد على مباني الجمل القصيرة في أغلب الأحايين، يسرد الأحداث بلغة واضحة ومفهومة، بعيدة عن الغموض والاستعارات والتلميحات والترميزات، ثم يقوم بالتعليق عليها، والتوصّل في نهاية المطاف إلى الاستنتاج واستخلاص العبر. وتكثر في الكتاب العناوين الثانويّة القصيرة (مبالغ فيها)، وهنالك عناوين تُطرح بصيغة سؤال ويتمّ الإجابة عنها بإيجاز. إنّ الوضوح والشفافيّة واضحة للعيان بعيدة عن التعقيدات البلاغيّة المنفرّة لأنّ هدف الكتابة هو فهم الفكرة لدى جميع القرّاء، بغض النظر عن التفاوت بينهم بالفئات العمريّة والقدرات الثقافيّة. وبالمقابل، فإنّ النتائج والتلخيصات في أعقاب كلّ حدث فيها كثير من التكرار ولا تعطي القارئ مساحة للتفكير حتّى يتوصّل إلى هذه النتائج، ويحلّلها وفق رؤيته الذاتيّة.
كما وأنّ الكتابة تمتاز بالتنوّع، نوجزها بالنقاط التالية:
السّجع- يعدّ السّجع من أحد أنواع المحسنات اللفظيّة في اللغة العربيّة، وهو دليل على قدرات الكاتب في تفخيم كتابته، وكان هذا الأسلوب شائعًا في الأدب العربيّ في الأجناس الأدبيّة كالمقامة والرّسالة والموعظة وغيرها. ومن الأمثلة الواردة في الكتاب: “أحداث حياتك دروس علميّة، ومساقات تدريبيّة بأعلى درجات المهنيّة، خيطت على مقاسك بالضبط بكلّ دقّة وحرفيّة” (ص. 16)؛ “وغرس مخالبه بإحكام في رقبته، خنقه بغلظةٍ وفظاظةٍ فقتله في لحظته” (ص. 140)؛ اغتاله وهو يدسّ رأسه آمنًا في قصر الجحور، مات بلا إحساس ألم أو شعور، والجميع في قصورهم ينعمون، ولم يسمعوه ينادي “أنقذون أنقذون”” (ص. 140)؛ تذكر ريادة خالد بن الوليد ومنطقه العجيب؟ (ص. 218) وغيرها.
كتابة الأفعال المترّاصة – يتّبع الكاتب تقنيّة الأفعال المترّاصة في الكتابة، التي تكسب النصّ ديناميكيّة وحركة فعّالة، تشير إلى عدّة فعاليات متلاحقة وكأنّها تحدث أمامك بسرعة: “ولكن ثمّة مشكلة واقعة نعانيها، نقرأ، نتعلّم، نتابع، نبحث، نشاهد، نلتحق بورشات، ننخرط في دورات، ولكن من دون فائدة حقيقيّة” (ص. 17)، “علّمتني طفلة صغيرة ألاّ أتسرّع، ألاّ أزدري، ألاّ أستهين، ألاّ أتكبّر، أن أصغي جيّدًا، أن أفتّش عن خيارات، وألاّ أجزم كما لو كنت عالم الزّمان وسيّد البرايا والأكوان” (ص. 27)، “فكّر وقدّر، ونظر وتدبّر وبدأ يستعد لخوض الغمار!” (ص. 150).
الاستطراد- وهو التنقل من حديث رئيسيّ إلى آخر ثانويّ لتفسير آرائه ودعمها ببرهان. على سبيل المثال، في الفصل الثاني يذكر قصة النبي موسى مع الخضر، ومن ثم يقصّ علينا مشاهدًا من حياته الشخصيّة، وبعدها يتحدّث عن فلسفة الحياة، ويناقش مسألة هل نحن مخيّرون أم مسيّرون؟ ومن ثمّ يتحدث عن نفسه ويعرض العديد من الأمثلة السّائرة التي تشرعن التبعيّة. وهذا النموذج من الكتابة متكرّر في الفصول الأخرى.
الأدب الرّمزيّ – يعتمد الفصل الثالث على الاستعانة بشخصيّات الحيوانات والطيور والمقارنة بينهما في سلوكيات معينة، هادفة بطبيعة الحال إلى الانسان ليتعلّم منها الحكمة والعبرة. فالشخصيتان المركزيتان في القصّة هما الفأر الذي يمثّل شخصية فريد، والنعامة التي تمثّل شخصيّة نعيم. وثمّة فرق شاسع بينهما في التعامل مع الأمور في حياتهم اليوميّة. وهذا ما يُطلق عليه الأدب الرّمزيّ، والذي يشير إلى علاقة اندماجيّة بين مستوى الأشياء الحسيّة الرّامزة، ومستوى الحالات المعنويّة المرموز إليها. وقد كان هذا النوع الأدبيّ واسع الانتشار في أدب العصور الوسطى، مثل كتاب “كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفع، وما زال هذا النوع مستخدمًا في قصص الأطفال حتى يومنا هذا.
الاقتباسات من التراث الاسلاميّ والعربيّ- نرى كاتبنا مثقفًا ملمًا بمواد موثّقة بالمراجع العربيّة الدينيّة والتراثيّة وغيرها. فهو يضمّن كتاباته باقتباسات وفق السّياقات التي يتناولها في سرديته. من القرآن الكريم نجد آيات كاملة أو أجزاء منها: “حاجة في نفس يعقوب” (ص. 22)، “كذّاب أشر” (ص. 48)، “لن تستطيع معي صبرًا” (ص. 80)، “وهي حية تسعى” (ص. 100)“، وفي فلك يسبحون” (ص. 101)، “فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” (ص. 106)؛ ومن الأحاديث النبوية الشريفة نجد: وإن شئت تذكّر وصيّة النبيّ الحكيم “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقا” (ص. 218)، وقال الناس يا فرّار فيقول النبيّ القائد الأعلى للقوات “ليسوا بالفرّار ولكنهم الكرّار”؛ ومن الأمثال والحكم العربيّة: “يضع سره في أضعف خلقه” (ص. 24)، “أوفى سموأل” (ص. 36)، “من عاشر القوم 40 صار منهم” (ص. 102)، “ما بعد الضيق إلاّ الفرج” (ص. 198)، “فرفور ذنبه مغفور” (214)، “قبل أن تقع الفأس بالرأس” (ص. 223)، وقوله “كذب الاقتصاديون ولو صدقوا” (ص. 29)، وهذا القول يعتمد على العبارة “كذب المنجمون ولو صدقوا”. وكذلك مثل في العاميّة: “تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي” (ص. 216)؛ ومقولة مشهورة للأديب الإنجليزي شكسبير “أكون أو لا أكون” (ص. 73).
مزج الشّعر بالنثر- نجد العديد من القطع على صيغة الشعر الحرّ ممزوجة بالنثر، كما في الصفحات: 35، 139، 141، 171- 172 وغيرها.
استخدام ألفاظ من اللغة العبريّة- في الحقيقة ثمّة تحفظ لدى كاتبنا من استعمال اللغة العبريّة في الكتاب، وبالرّغم من ذلك نجد لفظتين قيلتا في سياق تواجده مع شريكه “أبو شريك” في مساكن الطلبة بالجامعة العبرية في القدس. الأولى- “طلاب مدمنون على “النادي” (موعدون يالعبرية)(ص. 206)، “يا تعاسة من يكون شريكه من السّكن وغد من شلة “الموعدون”!” (ص. 206)، كما وأنّ لفظة الموعدون كُتبت بدون هلالين مزدوجين وتمّ استخدمها وفق اللفظ العربيّ “وقهقهات موعدونيّة” (ص. 206) وفق طريقة “العربرية”، أي ألفاظ أصلها عبريّة دخلت إلى لغتنا العربيّة المحكيّة والمكتوبة ونطبق عليها القواعد العربيّة. والثانية- “ما يسميه الطلاب “مستوطن” وبالعبرية “متنحيل”” (ص. 211). وهنالك لفظة عبريّة أخرى إيجابيّة التصقت به، حيث لُقّب بها من قِبل الطلاب “ينبزونك بالحرّاث أو “الحرشان” بالعبرية (ص. 206). ولقب آخر بالعربيّة سبع “البُرُمبة” (ص. 209). “سبع البرمبة” هي جملة مصريّة قديمة مقسّمة لجزأين، وهما “سبع” وهو الأسد، وقيل أنّ “البرمبة” هي كلمة محرّفة عن منطقة “البرمبل” ويقصد بها التهكم على شجاعة الرجل وقوته.
النقد الاجتماعي: يتناول العلاقة بين العمل الأدبيّ والمجتمع الذي نشأ بداخله الكاتب. ويظهر البطل في الكتاب على شاكلة “نبيّ الغضب”، إذ عاش في بيئة كثيرة المغالطات والتحدّيات، وليس من السّهولة بمكان تخطّي العقبات والعثرات التي وقفت حاجزًا أمامه في جميع مراحل مسرد حياته. وفي المجمل، نجد لديه انتقادات لاذعة في موضوعيْن أساسييْن، وهما التعليم والاقتصاد. سأتركز في مجال التعليم، لقد واجه بطل الكتاب عدّة صعوبات بالتعامل غير التربويّ لطفل بريء يرسم خطواته الأولى في المرحلة الابتدائية من قِبل معلميه، الذين يسلكون نهج “الوحوش” و”المجرمين”، بدلًا من التعامل بلطف مع أطفال أبرياء، لا حول ولا قوّة لهم، بالرّغم من قدراتهم وكفاءاتهم الأكاديميّة العاليّة: “فمعلّمي في الصّف الأوّل الذي سحق خدودي وارتجَّ مخّي بلطماته هو أيضًا خريج جامعة ويحمل اللقب، لكنّه وحش في ثوب واعظ، ومعلمتي الأنيقة في الصّف الثاني خرّيجة جامعيّة وأنثى لطيفة لكنها مجرمة بزيّ مربيّة”. وتتوالى عليه اللطمات في مراحل متقدمة من حيث الظلم في العلامات رغم قناعته بتحصيلاته العالية وعدم تقبل رأيه، ومن حيث عدم تقدير ابداعاته في كتابة موضوعات الانشاء، التي أُهملت ولم تلقَ استحسانًا لدى المعلمين. لقد عانى البطل الأمرّين من ظلم المعلمين وولّد لديه الشّعور بالإحباط وتثبيط العزيمة. ولكنه، أخيرًا وجد ضالته عند معلم اللغة العربيّة في المرحلة الثانوية، الذي قدّر نتاجاته الابداعيّة، وحثّه على نشرها في منّصات أدبيّة بسبب جودتها العالية. وكان التقدير في مكانه، والنتيجة في نهاية المطاف، إنّنا حصلنا على هذا الكتاب.
الخلاصة من قصة بطلنا في المجال التعليميّ، أنّ هنالك حاجة لدى جمهور المعلمين أن يراجعوا أنفسهم في تقدير قدرات الطلاب واحترامهم، والتعامل معهم بطريقة مغايرة حتى ينشأ جيل يثق بنفسه، ويعبر عمّا يختلج في صدره بأريحيّة، ويعمل جاهدًا على بناء شخصيته بقواه الذاتيّة. هذه الحالة تذكّرني بقصّة قرأتها “أوقات عصيبة” للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، ويتخلّل القصّة مشهدًا لطلاب في المدرسة الابتدائيّة يتعلمون في درس العلوم عن الحيوانات. سألتهم المعلمة من يعرّف لي ما هو الحصان؟ فسألها أحد الطلاب، أي من المعلومات تقصدين؟ فوبّخته المعلمة على سؤاله بأنّه غير مؤدّب ويستخفّ بها. صمت وعاد إلى البيت غاضبًا. ولكن يتّضح فيما بعد أنّ والد هذا الطالب طبيب بيطريّ، ويعرف معلومات عن الحصان أكثر من المعلمة نفسها.
في نهاية المطاف، قصة الكتاب تمثّل واقع الشّباب العربيّ الفلسطينيّ الذي يعيش في هذه البلاد، “كيف يكتب النثر والشعر والأدب والفلسفة، رجل اقتصاد مدقق حسابات عربيّ يعيش في كيان إسرائيليّ؟ (ص. 161). يؤكّد الكاتب أنّ الشّباب والشّابات العرب الذين يدرسون في المؤسّسات الأكاديميّة في إسرائيل يعانون كثيرًا في الإطار التعليميّ من التمييز العنصريّ “صفعات العنصريّة مؤلمة” (ص. 195) في دولة “الديموقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط!” (ص. 194). وأنّ هذا التمييز يلاحقهم أيضًا عندما ينهون التعليم في حالة تفتيشهم عن الوظيفة التي يستحقونها.
وأخيرًا، أنصحك عزيزي القارئ بقراءة الكتاب، لعلّك تهتدي إلى تفكيك السرديّة الذاتيّة والشيفرات السريّة الخاصة بك.